هل عدت إلى سرحانك يا حجة " .. محمود .. زوج ابنتي سمية .. إنه الولد الذي لم أنجبه .. رجل شهم و كريم .. خفيف الظل .. منفرج الأسارير على الدوام ..
هذا الرجل أحرجني بمدى طيبته و حبه لابنتي و لي من بعدها .. لقد طالب بأن أسكن في منزله منذ بدأ الهرم و المرض يتآكلاني .. الأمر الذي لم يقدم عليه ابني من لحمي و دمي
- محمود .. ألا تستطيع إلا أن تباغتني
- خالتي العزيزة .. أنا أجلس هنا منذ خمس دقائق أو أكثر .. ألقيت عليك التحية و لكنك لم تكوني هنا
- معك حق .. لقد بدأت الذكريات تسرقني من الواقع
- المهم أن تكون ذكريات سعيدة
- .......
- لا تجيبي أن متأكدة أنها سعيدة .. فعيناك تلمعان كيوم تزوجت سمية .. و يوم أنجبنا طفلتنا البكر و من بعدها التوأمان المشاغبان .. يبدو أن ذكرياتك مليئة بالحب
- أنت شقي جدا يا محمود
- ربما و لكن ألا يحق لي
- بل يحق لك ما لا يحق لغيرك
- إذن فقصي علي بعضا من ذكرياتك .. أرجوك خالتي ..
- يوما ما .. ستجدني كتابا بين يديك .. بكل الذكريات .. و كل ما كان من طموح و أحلام
- إذن أرجوك استعجلي قبل أن أضطر لاستخدام نظارات أكثر سماكة .. لقد أفقدتني ابنتك كل شبابي و أضعفت بصري
- ما الذي تقوله
- لا شيء حبيبتي .. لقد كنت أداعب خالتي ليس إلا
- و لكنك كنت تتحدث عني ..
- أنا دائم الحديث عنك .. ألست حبيبتي و أم أولادي
أعشق النظر إلى هذين الزوجين .. أشعر بأن أفضل عمل فعلته في حياتي .. هو السماح لسمية بالزواج من محمود برغم كل الاعتراضات التي واجهتها من أعمامها .. فهو حقا رجل بكل ما تحمل الرجولة من معان .. و يحبها جدا ..
- أكملا عتابكما لاحقا .. فقد تعبت .. هل لك أن تساعديني لأعود إلى غرفتي ..
- بالطبع يا ست الحبايب و لكن أولا اشربي كوبا من العصير .. و أقراص دوائك
الدواء .. أتمنى لو أكف عن تناوله .. من قال بأني أحتاج لزيادة في عمري .. أعتقد بأني أنهيت رسالتي في الحياة .. لقد تزوجت كما رغب الجميع و أنجبت أربعة أطفال .. كل منهم الآن مستقر في منزله و حياته الخاصة .. على درجة من التعليم و قدرات لا بأس بها يخوضون فيها معترك الحياة ..
... " يوما ما ستكونين أما رائعة .. أستطيع منذ الآن أن أتخيل شكل أطفالك .. و كيف ستربينهم"
آه ... معظم خيالاته تحولت إلى واقع .. كلماته لم تكن يوما أفكارا في الهواء .. دائما كانت تحاكي الواقع أو ترسم المستقبل و كأنه رآه مسبقا .. ترى لماذا لم يكن هو والد أطفالي .. أكان هذا أكثر مما يمكن للقدر أن يعطيني
لا أنكر بأن زوجي الراحل و والد أطفالي شخص جيد .. احتواني و لم يقصر يوما في حقي .. ساعدني على تربية أطفالنا على الفضيلة و مخافة الرحمن و كان لا يتوانى في توفير كل ما نحتاج إليه .. كان رجلا بحق .. يحظى باحترام كل من حوله .. و بحبهم أيضا ..
ولكني لم أتمكن يوما من حبه .. لقد ظل خيال حبيبي يأسرني و يغمر أطياف حياتي .. حاولت طويلا أن أحبه .. أو على الأقل أن أنسى حبيبي .. و لكن هيهات .. لم أتمكن يوما من فعل هذا ..
و ليس معنى هذا أني كنت أقلل من قيمة زوجي .. بل على العكس لطالما حاولت أن أكون الزوجة الصالحة المتوانية في خدمته و خدمة أبنائها .. أعطيتهم من روحي و قوتي دون أن أحفل بنفسي .. إلا أن المشاعر لم تكن يوما بيدي ، الآن لا يجوز لي ذكره إلا بالخير وأن أطلب له الرحمة .. لقد كان مظلوما و كنت معه .. و القدر هو من ظلمنا.
يوم وفاته أحسست بأن ركنا مهما في حياتي قد انهار .. لقد ذهب زوجي و سندي .. الحائط المتين الذي كنت أعتمد عليه .. و القلب الحنون الذي كان يحتملني .. و السقف الذي يحميني .. و لكني مع ذلك أحسست بنوع من الراحة .. فقد حصدت حريتي من جديد .. و سأنام قريرة العين أخيرا دون أن أشعر بتأنيب ضميري على خيانتي الشعورية.
... ... ... ... ...
نهار آخر و يوم آخر .. و وجبة الأقراص اليومية هي أول ما أتناوله في الصباح .. تختلف الأقراص في أشكالها و ألوانها و أحجامها كما أهدافها .. و لكنها تجتمع على صفة واحدة .. جميعها مزعجة.
... إنها فترة الامتحانات النهائية .. الجميع منهكون و مشغولون بهذه الامتحانات .. و أنا لا يشغل بالي إلا أمر واحد .. كيف يمكنني قضاء الإجازة الصيفية دون أن أره ... اعتدت على وجوده في حياتي كل يوم .. و كم كنت أمقت عطلة نهاية الأسبوع و أسعى لاختلاق أعمال و واجبات و أسباب وهمية لنلتق خارج الجامعة في هذه العطل .. أما الآن فماذا ستكون حجتي يا ترى
..." ماذا تنوين أن تفعلي خلال العطلة " صوته قطع أفكاري و لكن سؤال نابع من أفكاري .. ترى كيف علم بماذا أفكر
- لا أعلم حتى الآن ليس هناك خطط في بالي .. ماذا عنك؟؟!
- أنا أفكر في السفر إلى الريف
- لماذا؟؟! لم أكن أعلم أنك من الريف
- لست كذلك و لكن لي بعض أقارب والدتي يسكنون الريف .. أحب الذهاب لزيارتهم .. و الاستمتاع بجمال الريف و هدوءه
- معك حق علينا أن نبتعد قليلا عن ضجة المدينة
- ما رأيك لو ترافقينني
سؤال مباغت .. صدمة فعلية .. ترى ما الذي يفكر فيه
- أتمنى هذا و لكن كيف و أين سأقيم ؟؟ ثم و هو الأهم من يستطيع إقناع والدي بأمر كهذا
- أليس لديك أي أقارب في الريف
- لدي و لكنهم يقطنون الشمال و ليس هناك علاقة قوية بيننا و بينهم
- للأسف .. لن يكون الريف جميلا .. كيف للجمال أن يكتمل دون إطلالتك
لم أتمكن من الإجابة .. تركت حمرة خدي تجيبه و حملت أغراضي و غادرت .. بمجرد عودتي إلى المنزل لاحظت أمورا غريبة تحدث .. و كأن لدينا وليمة أو ضيوفا مهمين .. ترى ما الموضوع
طبعا والدتي هي أول من استقبلني بعد قططي المدللة .. أقبلت علي بوجهها البشوش الذي بدأت التجاعيد تشن هجومها نحوه .. لتزفني نبأً أسعدها و أضاعني .. هناك من هو آت لخطبتي الليلة ..حاولت المعارضة بحجة الدراسة و طموحي .. فلم أجد منها إلا إهمال كل ما أقول و ردت باختصار
" العريس المتقدم لك فرصة لن تتكرر .. إنه يعمل منذ أعوام في الخليج .. و قد استطاع في فترة عمله أن يشتري بيتا هنا و مزرعة و لديه رصيد جيد في البنك .. و ينوي العودة للاستقرار في البلاد خلال عام و هي فترة أكثر من كافية لك لكي تنهي دراستك .. كما أنه شاب مثقف و متعلم و ذو أخلاق رفيعه و لا أظن بأنه سيقف في وجه طموحك .. و لا تنسي أنك فتاة .. في النهاية المطبخ و الأولاد سيكونان شغلك الشاغل "
ألقت علي هذه القنبلة و ذهبت تكمل التحضيرات اللازمة للزيارة المشئومة , جاولت جاهدة أن أتأقلم مع الفكرة .. على أمل ألا أعجبه أو أجد به عيبا يمنعني من الارتباط به .
" أمي أخبريني .. كيف تم الارتباط بينك و بين والدي" .. سؤال ابنتي هو ما أرجع إلى بالي هذه الصور
اليوم أتذكر أيضا كيف التقيت به للمرة الأولى .. كنت مطالبة بعمل بحث ضخم؛ كنت أقضي يومي بين المكتبة و الأوراق .. أبحث هنا و أقرأ هناك .. و أدون الملاحظات و أبحث عن أفكار .. كل هذا جعل تفكيرا مشوشا عن أي شيء إلا بحثي .. كنت أمشي و أجلس و أرافق أصدقائي و تفكيري كله محصور في الخطوة القادمة أو المضمون التالي لأحد فصول بحثي ..
يتبع
__________________